فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ}.
الإشارة في قوله: {أولئك} راجعة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة. وقد بين الله هنا أنه أنعم عليهم واجتباهم وهداهم. وزاد على هذا في سورة (النساء) بيان جميع من أنعم عليهم من غير الأنبياء في قوله: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقًا} [النساء: 69]. وبين في سورة الفاتحة: أن صراط الذين أنعم عليهم غير صراط المغضوب عليهم ولا الضالين في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 6-7]. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: قال السدي وابن جرير رحمهما الله: فالذي عنى به من ذرية آدم: (إدريس). والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح: (إبراهيم). والذي عنى به من ذرية إبراهيم: (إسحاق ويعقوب وإسماعيل). والذي عنى به من ذرية إسرائيل: (موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم). قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم، لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح.
قلت: هذه هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد قيل: إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذًا من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبًا بالنَّبي الصالح، والأخ الصالح» ولم يقل والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة السلام- انتهى الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
وقال ابن كثير أيضًا في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى هؤلاء النَّبيون، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط. بل جنس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس، إلى أن قال في آخر كلامه: ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة (الأنعام): {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] - إلى قوله- {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] - اهـ. وقد قال تعالى في صفة هؤلاء المذكورين في (الأنعام): {واجتبيناهم وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87]. كما قال في صفة هؤلاء المذكورين في سورة (مريم) {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ}.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا} بين فيه أن هؤلاء الأنبياء المذكورين إذا تتلى عليهم آيات ربهم بكوت وسجدوا.
وأشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر بالنسبة إلى المؤمنين لا خصوص الأنبياء، كقوله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107-109]، وقوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} [المائدة: 83]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، وقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23]. فكل هذه الآيات فيها الدلالة على أنهم إذا سمعوا آيات ربهم تتلى تأثروا تاثرًا عظيمًا، يحصل منه لبعضهم البكاء والسجود. ولبعضهم قشعريرة الجلد ولين القلوب والجلود، ونحو ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَبُكِيًّا} جمع باك. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية من سورة (مريم) فسجد وقال: هذا السجود، فاين البكى؟ يريد البكاء. وهذا الموضع من عزائم السجود بلا خلاف بين العلماء في ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ}.
إدريس: اسم جعل علمًا على جد أبي نوح، وهو المسمى في التوراة (أُخنُوخ).
فنوح هو ابن لامك بن متُوشالح بن أُخنوخ، فلعل اسمه عند نسّابي العرب إدريس، أو أن القرآن سماه بذلك اسمًا مشتقًا من الدرس لما سيأتي قريبًا.
واسمه (هرمس) عند اليونان، ويُزعم أنه كذلك يسمى عند المصريين القدماء، والصحيح أن اسمه عند المصريين (تُوت) أو (تحُوتي) أو (تهوتي) لهجات في النطق باسمه.
وذكر ابن العِبْري في (تاريخه): أن إدريس كان يلقب عند قدماء اليونان (طريسمجيسطيس)، ومعناه بلسانهم ثلاثي التعليم، لأنه كان يصف الله تعالى بثلاث صفات ذاتية وهي الوجود والحكمة والحياة. اهـ.
ولا يخفى قرب الحروف الأولى في هذا الاسم من حروف إدريس، فلعل العرب اختصروا الاسم لطوله فاقتصروا على أوله مع تغيير.
وكان إدريس نبيئًا، ففي الإصحاح الخامس من سفر التكوين (وسار أُخنوخ مع الله).
قيل: هو أول من وضع للبشر عمارة المدن، وقواعد العلم، وقواعد التربية، وأول من وضع الخط، وعلّم الحساب بالنجوم وقواعدَ سير الكواكب، وتركيب البسائط بالنّار فلذلك كان علم الكيمياء ينسب إليه، وأوّل من علم الناس الخياطة.
فكان هو مبدأ من وضع العلوم، والحضارة، والنظم العقليّة.
فوجه تسميته في القرآن بإدريس أنّه اشتق له اسم من الفرس على وزن مناسب للأعلام العجميّة، فلذلك منع من الصرف مع كون حروفه من مادة عربية، كما منع إبليس من الصرف، وكما منع طالوت من الصرف.
وتقدّم اختلاف القراء في لفظ {نبيئًا} عند ذكر إبراهيم.
وقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قال جماعة من المفسرين هو رفع مجازي.
والمراد: رفع المنزلة، لما أوتيه من العلم الذي فاق به على من سلفه.
ونقل هذا عن الحسن وقال به أبو مسلم الأصفهاني.
وقال جماعة: هو رفع حقيقي إلى السماء، وفي الإصحاح الخامس من سفر التكوين (وسار أخنوخ مع الله ولم يُوجد لأنّ الله أخذه)، وعلى هذا فرفعه مثل رفع عيسى عليه السلام.
والأظهر أن ذلك بعد نزع روحه وروْحنة جثته.
ومما يذكر عنه أنّه بقي ثلاث عشرة سنة لا ينام ولا يأكل حتى تَرَوْحَن، فرفع.
وأما حديث الإسراء فلا حجة فيه لهذا القول لأنه ذكر فيه عدة أنبياء غيره وجدوا في السماوات.
ووقع في حديث مالك بن صعصعة عن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات أنه وجد إدريس عليه السلام في السماء وأنه لمّا سلّم عليه قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
فأخذ منه أنّ إدريس عليه السلام لم تكن له ولادةٌ على النبي صلى الله عليه وسلم لأنّه لم يقل له والابن الصالح، ولا دليل في ذلك لأنه قد يكون قال ذلك اعتبارًا بأخوّة التوحيد فرجحها على صلة النسب فكان ذلك من حكمته.
على أنّه يجوز أن يكون ذلك سهوًا من الراوي فإن تلك الكلمة لم تثبت في حديث جابر بن عبدالله في (صحيح البخاري).
وقد جزم البخاري في أحاديث الأنبياء بأن إدريس جد نوح أو جدّ أبيه.
وذلك يدلّ على أنّه لم ير في قوله «مرحبًا بالأخ الصالح» ما يُنافي أن يكون أبًا للنبيء صلى الله عليه وسلم.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ}.
الجملة استئناف ابتدائي، واسم الإشارة عائد إلى المذكورين من قوله: {ذكر رحمة ربك عبده زكرياء} [مريم: 2] إلى هنا.
والإتيان به دون الضمير للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر مع المشار إليهم من الأوصاف، أي كانوا أحرياء بنعمة الله عليهم وكونهم في عداد المهديين المجتبيْن وخليقين بمحبتهم لله تعالى وتعظيمهم إياه.
والمذكور بعد اسم الإشارة هو مضمون قوله: {أنعم الله عليهم} وقوله: {وممّن هدينا واجتبينا}، فإن ذلك أحسن جزاء على ما قدموه من الأعمال، ومن أعطوه من مزايا النبوءة والصديقية ونحوهما.
وتلك وإن كانت نعمًا وهداية واجتباء فقد زادت هذه الآية بإسناد تلك العطايا إلى الله تعالى تشريفًا لها، فكان ذلك التشريف هو الجزاء عليها إذ لا أزيد من المجازَى عليه إلاّ تشريفه.
وقرأ الجمهور: {من النّبييّن} بياءين بعد الموحدة. وقرأه نافع وحده بهمزة بعد الموحدة. وجملة {إذَا تتلى عَليهم ءَاياتُ الرَّحْمانِ} مستأنفة دالة على شكرهم نعم الله عليهم وتقريبه إياهم بالخضوع له بالسجود عند تلاوة آياته وبالبكاء. والمراد به البكاء الناشىء عن انفعال النفس انفعالًا مختلطًا من التعظيم والخوف. و{سُجدًا} جمع ساجد. {وبُكيًّا} جمع بَاك. والأول بوزن فُعّل مثل عُذَّل، والثاني وزنه فعُول جمع فاعل مثل قوم قعود، وهو يائي لأنّ فعله بكى يبكي، فأصله: بُكُويٌ. فلما اجتمع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وحركت عين الكلمة بحركة مناسبة للياء. وهذا الوزن سماعي في جمع فاعل ومثله.
وهذه الآية من مواضع سجود القرآن المروية عن النبي اقتداء بأولئك الأنبياء في السجود عند تلاوة القرآن، فهم سجدوا كثيرًا عند تلاوة آيات الله التي أنزلت عليهم، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا. وأثنت على سجودهم قصدًا للتشبه بهم بقدر الطاقة حين نحن متلبسون بذكر صنيعهم. وقد سجد النبي عند هذه الآية وسنّ ذلك لأمته. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ}.
ما زال القرآن يعطينا لقطاتٍ من موكب الرسالات والنبوات. وإدريس عليه السلام أوّل نبي بعد آدم عليه السلام، فهو إدريس بن شيث بن آدم. وبعد إدريس جاء نوح ثم إبراهيم، ومنه جاءت سلسلة النبوات المختلفة.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًَّا} [مريم: 56].
تحدثنا عن معنى الصِّدِّيق في الكلام عن إبراهيم عليه السلام، والصِّدِّيق هو الذي يبالغ في تصديق ما جاءه من الحق، فيجعل الله له بذلك فُرْقانًا وإشراقًا يُميّز به الحق فلا يتصادم معه شيطان؛ لأن الشيطان قد ينفذ إلى عقلي وعقلك.
أما الوارد من الحق سبحانه وتعالى فلا يستطيع الشيطان أن يعارضه أو يدخل فيه، لذلك فالصِّدِّيق وإن لم يكُنْ نبيًا فهو مُلْحقِ بالأنبياء والشهداء، كما قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقًا} [النساء: 69].
وكذلك كان إدريس عليه السلام (نبيًا) ولم يقُلْ: رسولًا نبيًا، لأن بينه وبين آدم عليه السلام جيلين، فكانت الرسالة لآدم ما زالت قائمة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}.
مكانًا عاليًا في السماء، رِفْعه معنوية، أو رِفْعة حِسّية، خُذْها كما شئتَ، لكن إياك أنْ تجادل: كيف رفعه؟ لأن الرِّفْعة من الله تعالى، والذي خلقه هو الذي رفعه.
ثم يقول الحق سبحانه: {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم}.
قوله تعالى: {أولئك} [مريم: 58] أي: الذين تقدَّموا وسبق الحديث عنهم من الأنبياء والرسل {مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ} [مريم: 58] أي: مباشرة مثل إدريس عليه السلام {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم: 58] الذين جاءوا بعد إدريس مباشرة {وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 58] أي: الذين جاءوا بعد نوح. وقد انقسموا إلى فرعين من ذرية إبراهيم.
الأول: فرع إسحق الذي جاء منه جمهرة النبوة، بداية من يعقوب، ثم يوسف، ثم موسى وهارون، ثم داود وسليمان، ثم زكريا ويحيى، ثم ذو الكفل، ثم أيوب، ثم النون.
والفرع الآخر: فرع إسماعيل عليه السلام الذي جاء منه جماع جواهر النبوة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَإِسْرَائِيلَ} [مريم: 58] هو نبيّ الله يعقوب {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ} [مريم: 58] الذي هديناهم واجتبيناهم. أي: اخترناهم واصطفيناهم للنبوة {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
لماذا قال: {آيَاتُ الرحمن} [مريم: 58] ولم يقُلْ: آيات الله؟ قالوا: لأن آيات الله تحمل منهجًا وتكليفًا، وهذا يشقُّ على الناس، فكأنه يقول لنا: إياكم أنْ تفهموا أن الله يُكلّفكم بالمشقة، وإنما يُكلّفكم بما يُسعِد حركة حياتكم وتتساندون، ثم يسعدكم به في الآخرة؛ لذلك اختار هنا صفة الرحمانية.
وقوله: {خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] لم يقُل: سجدوا، بل سقطوا بوجوههم سريعًا إلى الأرض. وهذا انفعال قَسْري طبيعي، لا دَخْلَ للعقل فيه ولا للتفكير، فالساجد يستطيع أنْ يسجدَ بهدوء ونظام، أما الذي يخرُّ فلا يفكر في ذلك، وهذا أشبه بقوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] أي: سقط عليهم فجأة.
وهذا الانفعال يُسمُّونه (انفعال نزوعي) ناتج عن الوجدان، والوجدان ناتج عن الإدراك، وهذه مظاهر الشعور الثلاثة: الإدراك، ثم الوجدان، ثم النزوع. والإنسان له حواس يُدرِك بها: العين والأذن والأنف واللسان.. إلخ.
فهذه وسائل إدراك المحسّات، فإذا أدركتَ شيئًا بحواسِّك تجد له تأثيرًا في نفسك، إما حُبًا وإمًا بُغْضًا، إما إعجابًا وإما انصرافًا، وهذا الأثر في نفسك هو الوجدان، ثم يصدر عن هذا الوجدان حركة هي (النزوع).
فمثلًا، لو رأيتَ وردة جميلة فهذه الرؤيا (إدراك)، فإنْ أُعجبْتَ بها وسُ رِرْتَ فهذا (وجدان)، فإنْ مددْتَ يدك لتقطفها فهذا (نزوع). والشرع لا يحاسبك على الإدراك ولا على الوجدان، لكن حين تمد يدك لقطف هذه الوردة نقول لك: قفْ فهذه ليست لك، ولا يمنعك الشارع ويتركك، إنما يمنعك ويوحي لك بالحلِّ المناسب لنزوعك، فعليك أنْ تزرع مثلها، فتكون مِلْكًا لك أو على الأقل تستأذن صاحبها.
كذلك الحال فيمن تسمّع لكلام الله وقرآنه يدرك القرآن بسمعه فينشأ عنه حلاوة ومواجيد في نفسه، وهذا هو الوجدان الذي ينشأ عنه انفعال نُزوعي، فلا يجد إلا أنْ يخر ساجدًا لله تعالى.
والنزوع هنا لم يُكنْ نزوعًا ظاهريًا بل وأيضًا داخليًا، ففاضت أعينهم بالدمع {سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
وقد عُولج هذا المعنى في عِدّة مواضع أُخَر، كما في قوله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107]. ومعنى: للأذقان: مبالغة في الخضوع والخشوع واستيفاء السجود؛ لأن السجود يكون أولًا على الجبهة ثم الأنف لكن على الأذقان، فهذا سجود على حَقٍّ، وليس كنقْر الديكَة كما يقولون.
إذن: فأهل الكتاب كانوا على علم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه سيأتي بالقرآن على فَتْرة من الرسل، وها هم الآن يسمعون القرآن؛ لذلك يقولون: {سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 108].
ومن النزوع الانفعالي أيضًا قوله تعالى عن أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} [المائدة: 83].
وقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23].
فلماذا يُؤثِّر الانفعال بالقرآن في كُلِّ هذه الحواس والأعضاء من جسم الإنسان؟ قالوا: لأن الذي خلق التكوين الإنساني هو الذي يتكلم، والخالق سبحانه حينما يتكلم وحينما تفهم عنه وتعي، فإنه سبحانه لا يخاطب عقلك فقط، بل يخاطب كل ذرة من ذَرّات تكوينك؛ لذلك تخِرُّ الأعضاء ساجدة، وتدمع العيون، وتقشعر الجلود، وتلين القلوب، كيف لا والمتكلم هو الله؟. اهـ.